لقد اشتمل الخطاب على تعميمات تاريخية وفلسفية جديرة بالتمحيص والتدقيق، ونحن هنا لسنا بصدد الدخول في جدل تاريخي أو خوض لاهوتي -ليس لضيق المقام فحسب- بل لعقيدتنا المطلقة بأن كل ما كان حقاً وعدلاً فهو مما يجب علينا الإيمان به، والتسليم بصحته من أي مصدر كان، وكل ما كان باطلاً وظلماً فإن الواجب علينا إنكاره من أيٍّ كان كذلك.
غير أن المشكلة التي ندخل لها - توّاً- هي إسباغ مفهوم الحق المطلق على حالة عابرة لأمة معينة في مرحلة تاريخية محددة وتسمية ذلك ( الحقائق الأخلاقية الكونية ) وهو ما تستطيع كل أمة أن تدعيه، فلا يكون الناتج إلا نقل الحروب من ميدان الأرض إلى عالم القيم، وهو عكس ما يظهر أنّه المقصود من الخطاب كما جاء في خاتمته.
اللهم إلا إذا صدقنا الصحفي الصهيوني توماس فريدمان الذي أعلن بوضوح أن الحرب الفكرية هي الأهم في نظر الأمريكان! وأن تغيير النظام الاجتماعي وأساليب الحكم ومناهج التعليم هي الجزء الأكبر من المعركة مع العالم الإسلامي، وحينئذ تكون دعوى القيم الأخلاقية الكونية وسيلة وليست غاية!!
مع أن من حق أي قارئ أن يرجح ذلك، فإننا سنغض النظر عنه ونتناول الموضوع من خلال حقائق التاريخ والمنطق مجردة.
إن الأساس المنطقي لهذه الدعوى الكبرى مفقود لسبب بسيط، هو أن المبدأ الذي استندت إليه تلك الحقائق الكونية المدعاة هو مبدأ القانون الطبيعي.
والاستناد إلى مبدأ غامض كالقانون الطبيعي، يصعب التدليل على وجوده فضلاً عن التلقي عنه، في أعقد مشكلة تواجه الجنس البشري هو أمر لا يصح التعويل عليه.
بل الواقع التاريخي يشهد أن أكثر النظريات إجحافاً في حق الإنسان استطاعت _ وتستطيع _ أن تعتمد على هذا المبدأ ذاته.
فقد اعتمد عليه ريكاردو في التبرير للرأسمالية الجشعة التي كانت الدافع لأكبر غزو استعماري في تاريخ الإنسانية.
كما اعتمد عليه مالتس وبنتام في التبرير لتحريم الصدقة والإحسان للفقراء، مصادمين بذلك قيمة من أعظم القيم الإنسانية.
وأفظع من ذلك ما قرره داروين من أن القانون الطبيعي يقوم على قاعدة أن الحياة صراع والبقاء للأقوى مما شكل الأساس الفلسفي للحروب المدمِّرة والأنظمة الشمولية في أوروبا الحديثة.
وبالنسبة للمؤسسين الأوائل لـأمريكا لم يكن استنادهم إليه إلا لاعتقادهم أنه أحدث النظريات، كما هو الحال لو اعتقد بعض المعاصرين فكرة نهاية التاريخ مثلاً!
ومعلوم لدى الباحثين أن توماس جيفرسن ومعاونيه اقتبسوا بيان إعلان الاستقلال من أفكار الفلاسفة الإنجليز لاسيما جون لوك، ومن أفكار المؤسسين النظريين للثورة الفرنسية أمثال روسو ومونتيسكيو، وفي ذلك الزمن كانت فكرة القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية هي الرائجة.
وأصل المشكلة لدى هؤلاء - وغيرهم من أصحاب النظريات الاجتماعية - هو افتقار الفكر الغربي الثائر على لـثيوقراطية الكنسيّة، والحكم المطلق إلى عقيدة يستمد منها وشريعة يحتكم إليها؛ ذلك الافتقار جعله يخترع الأسس الفلسفية اختراعاً
وهنا تجدر المقارنة بالعالم الإسلامي الذي يمتلك - فوق الخبرة التطبيقية - ثروة هائلة من نصوص الوحي والمدونات القانونية الشارحة تحدد بدقة الحقائق الأخلاقية الكونية، وتضع للعلاقات بين البشر أحكاماً تفصيلية قبل صدور -ما سمي في إنجلترا- العهد العظيم بستة قرون، وقبل ألف سنة من النظرية البدائية لـجروسيوس عن الحرب والسلام.
إن أوروبا لم تعمل جدياًً على اقتفاء أثر الشريعة الإسلامية - بل الاقتباس منها - إلا منذ صدور تشريعات نابليون سنة (1804م) أي: بعد جيل من إعلان الاستقلال الأمريكي (أعلن 1776م).
ولنأخذ لإيضاح ذلك مثالاً من القيم التي ذكرتم، والتي يمكن تلخيصها بكلمتين "الحرية والمساواة" إنهما شعاران قديمان ليس في كلامكم عنهما جديد، بل ليسا أصلاً من ابتكار المؤسسين، والأهم هو أن هاتين القيمتين لا يمكن أن تستند إلى المبدأ الغامض (القانون الطبيعي) في المنطق المجرد، فضلاً عن الواقع البشري، كما أنهما - بشيء من النظرة العميقة - قيمتان متعارضتان وهذا هو مكمن الخطر، فإن الأحداث الدامية التي أعقبت الثورة الفرنسية وهي الثورة التي رفعت - بوضوح - هذين الشعارين في الغرب، تؤكد ذلك جلياً، ومن هنا قال المؤرخ العالمي تويبني:
"يمكن اختصار التاريخ البشري بأنه مجال الصراع بين هذين المبدأين المتناقضين: مبدأ الحرية ومبدأ المساواة".
ومادام أن البشر عاجزون عن رسم الحدود الفاصلة بين المبدأين؛ بل بين حُرِّيَتَيْ كلِّ طرفٍ في العلاقات الإنسانية المتشعبة ( الحاكم والمحكوم، الزوج والزوجة، الدولة والدولة الأخرى، الأقلية والأكثرية..الخ ) ومادام أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يزد على أن أعاد إثارة المشكلة من جديد، ومنذ وضْعه حتى الآن لم يزل الاختلاف في تفسيره، ولم تزل كل المذاهب والأنظمة تستخدمه سلاحاً في وجه معارضيها، ومادام أن أشد الأنظمة استبداداً وعنفاً لا يتورع عن ادعاء وصف الديمقراطية: فإن عبارة من نوع عبارة مارتن لوثر كنغ عن قوس العدالة هي أشبه بتفسير الماء بأنه ماء.
كما أن العبارة التي أوردها الخطاب عن أوغسطين جاءت بأبلغ من ذلك في الإنجيل عن من هو أفضل وأقدم من أوغسطين وهو المسيح عليه السلام، ولكنها مجرد توجيه أخلاقي مثالي.
ومن هنا فلا مناص من رجوع العالم الإنساني كله إلى مرجعية كونية مطلقة مفصّلة، أو وفقاً لنظرية العميد دوجي كبير القانونيين الفرنسيين "بما أن التشريع هو فرض إرادة المشرع على الآخرين، فإنه لا يحق للبشر أن يُشرِّعوا للبشر ولا يملك ذلك إلا إرادة مطلقة فوق سلطة كل البشر".